في سياق تمثيل الواقع روائياً تطالعنا مقولة، نرى أنها تمتلك قدراً وافراً من الموضوعية، مفادها: أن على الروايات التي تريد تمثيل وقائع معينة التحرر من ضغوط تلك الوقائع وامتداداتها الزمانية؛ لكي يكون النظر إليها أوسع وأشمل، ومن ثم يكون العمل أنجح وأعمق أثراً.
وفقاً لتلك المقولة نرى أن رواية “قتلة” لضياء الخالدي، والصادرة في بيروت عام 2012 عن دار التنوير، قد نجحت بمقدار جيد في التحرر من ضغوط الواقع المحتقن الذي سعت إلى تمثيله.
وانطلاقاً من عنوانها، تنبئ الرواية قارئها أن ثمة عنف كثير، سيكون أساس متنها الحكائي. ذلك العنف الذي اجتاح بغداد في سنوات الذروة من محنتها في عهدها الجديد، ولم تزل آثاره ممتدة حتى اليوم.
البنية الحكائية للرواية تتشكل على يد ساردها وصوتها الوحيد، وتنكشف للمتلقي من خلال ثلاثة مستويات، يتفاوت توزيعها على امتداد الرواية:
المستوى الأول: سرد الأحداث من قبل السارد المشارك فيها. وهو رجل مسن يدعى “عماد الغريب” أو “عماد المثقف” أحيل على التقاعد بعد حياة وظيفية قضاها منعزلاً في أرشيف إحدى الدوائر الحكومية. تقلب سياسياً بين الاندفاع الشيوعي في الشباب إلى الانقلاب نحو حزب البعث في السبعينيات والثمانينيات، ليتجه إلى العبادة والمساجد في التسعينيات، لكنه لم يفارق نزواته الليلية، ما يشي بأنه شخصية ازدواجية غير مستقرة، وهو ما مهّد لانخراطه بعد السقوط مع مجموعة تمارس القتل، لكن للسيئين فقط، كما أقنعوه في البدء، فقد “وضعت على عاتقها النيل من القتلة، ليست مليشيات حزبية أو طائفية بل وطنية”. هكذا يخبرنا، مثيراً في أنفسنا تساؤلاً جديراً بالطرح، هو: هل يمكن للقتلة، مهما تجردوا، أن يكونوا وطنيين؟ كيف ذلك وهم يساهمون في خلخلة القانون والأمن الاجتماعي؟
يبدو عماد على أنه شخصية حيادية غالباً، يحاول استعراض الموت والتقتيل من كلا الجانبين، ويؤلمه ما يصيبهما بنفس المقدار، رغم أنه كان أداة للقتل أيضاً، حيث انتمى لجماعة صديقه القديم “ديار” والعائد من خارج البلد محملاً بالدولارات، وهي واحدة من النماذج الثلاثة التي تقدمها الرواية كفواعل للعنف في بغداد إبان احتقانها الطائفي. والنموذج الثاني جماعة الشيخ مؤيد التي تسيطر على السيدية، بينما الثالثة كانت جماعة غسان التي تقابلها في البياع.
يفصح عماد عن قلقه وشكوكه ومخاوفه حيال حقيقة نوايا زملائه، حتى يصل به الأمر إلى الإيحاء أنه منخدع بهم، خصوصاً بعد أن كشفوا له عن عزمهم الاعتماد على “شكرية” العجوز قارئة البخت، لمعرفة اسماء “السيئين” وتصفيتهم، وهذا واحد من مفاصل الكوميديا السوداء التي جسدتها الرواية.
في ظروف كهذه ستكون مشاركة عماد في “يانصيب الموت” الذي لا يفوز به إلا الفقراء البائسين خياراً غريباً، لكن الرواية تبدأ بحادثة قتل شخص استدرجه عماد نفسه. كما أنه ساهم في انضمام أعضاء جدد للمجموعة بعد أن صورها لهم بأنها “ملائكية”، لكن دافعهم الكبير كان الانتقام لا غير، الانتقام الذي أخذ يحرك الكثير من الناس في شوارع العاصمة، بحسب قناعة السارد.
المجموعة التي تعمل تحت غطاء شركة تجارية تواصل القتل للأشرار، كما تزعم، لكنها تقتل أخ الشرير أحياناً، خطأً أو عمداً، وتختطف بائعاً مسكيناً وتعرضه للاستجواب لعله يعترف ببعض الاسماء أو المعلومات. يتفاجأ عماد عندما يغضب صديقه ديار رئيس المجموعة الملائكية لتعرض قطته لاعتداء من قبل هر كبير، لكنه لا يهتم عند سماع نبأ ذلك الخطأ الذي راح ضحيته انسان برئ، وهو ما يكشف عن جزء من حقيقته. لكن الصدمة تكبر عندما يسمع قول ديار: “لا يمكن الحصول على معلومات مؤكدة مئة في المئة، عن السيئين، 75 بالمئة تكفي، والأخطاء تحصل”. هكذا ببساطة يمكن التلاعب بمصائر الناس، في الحكايات وفي الواقع أيضاً، و”سيئ الحظ هو من يكون من ضمن الـ 25 بالمئة، ولا داعي لأن نحزن ونرهق ضمائرنا بمثاليات غير منطقية”، كما يعقّب السارد، متهكماً من هذه المعادلة.
في الفصل الرابع يظهر اهتمام الراوي بوثيقة قديمة توصّل إليها من خلال فتاة انتمت الى المجموعة، وهذه الوثيقة تعيد استنبات “المصير الأسود” المخيم على أجواء الرواية، من أعماق تاريخ غامض، لتصرّح أن ما يجري كان مخططاً له منذ عقود غابرة. لكن الاهتمام بها يضمحل سريعاً، بخلاف ما كان متوقعاً له.
في تلك الأوقات العسيرة والتي يهرب فيها السابلة من الأزقة والشوارع الفرعية محتمين بما توفره الشوارع الرئيسية من أمان، تلك الفترة التي شهدت أحداث الهجرة والتهجير بين ضفتي بغداد، يلتقي عماد بصديق قديم اسمه “بلال” فارقه منذ الثمانينات، وفيما يشبه الكوميديا السوداء أيضاً يكشف له صديقه أنه يسخّر الجن للحفاظ على حياته معتمداً على نصائحها في اختيار الطرق الآمنة.
مع دخول بلال في أحداث الرواية تحصل تطورات كثيرة منها أنه يلتقي “شكرية” التي تستخدم الجن أيضاً، والتي كانت تسكن في بيت عماد، فينشب بينهما نزاع كلامي ولغط دون سابق معرفة أو اسباب واضحة، لكن بلال يكشف لصديقه أن الخلاف كان بسبب الجن المرافق لهما، وأن “هذه المرأة شيطانة” وعليه التخلص منها.
في ذلك اليوم يكشف ديار عن حقيقة مجموعته فيقول “إن عملنا طيلة الفترة الماضية كان دافعه المال واشياء أخرى” أي لمجرد إثارة الفوضى، وهو ما جعل عماد يقرر ترك المجموعة، لكنهم لا يقبلون بذلك، ويبدؤون بملاحقته.
في الفصل الأخير، الثالث عشر، المميز في بنيته السردية، يقرر الهرب من ملاذه عند صديقه في منطقة “الشرطة الخامسة” إلى كركوك حيث يسكن أخوه، وفي الطريق يأتيه اتصال بأنهم يتبعونه، مهتدين بشكرية والجن، فيقرر العودة إلى بغداد. تنتهي الرواية على الطريق، بانتظار تحرك الرتل الأمريكي، نهاية مفتوحة، تترك للمصادفات التي سادت أحداثها، وتحكمت بالواقع أيضاً، تقرير مصير عماد وزوجته العاقر.
المستوى الثاني: وتمثل في المنولوج الداخلي وحوار الذات وصراعها وأزماتها وانعكاس الواقع المرير فيها، وهو ما يمكن احتسابه على الكاتب بمقدارٍ ما، بوصفه رؤىً ذاتية ألبسها ثوباً روائياً.
هذا النسق البوحي الذي يعترض سير الأحداث كثيراً، كاد يتحول الى خطاب وإبداء مواقف أحياناً، وانثيالات وفضفضات في أحيان أخرى، لكن الراوي يبرر له، بالقول: “من حقي أن أبوح للحمام والسماء والجن والحشرات”. هذا المستوى يشبه لعبة تداعي الوعي، لكنه استدعاء مقنن ومنضبط نسبياً لهذا النمط السردي، أفلح الكاتب في أن يلجمه من أن يتمادى أو يصير أثره سيئاً على بنية الرواية.
نقرأ أيضاً لمحات حِكميّة عميقة، تحاول سبر الواقع وفلسفة ما يدور فيه، والملاحظ عليها أنها اكتفت أحياناً بالنظر للظواهر فقط، دون الغوص في جذور المشكلات وأصولها، لكنها بالمقابل تطرح تساؤلات كثيرة جديرة بالتأمل.
يطلعنا عماد كذلك على بعض أعمال المجاميع الارهابية البشعة التي تنتحل صفة الإسلام زوراً، ويعمّق فينا، عبر منولوجاته، آثار جرائمها بحق الانسان، وما يتركه خلفه من حزن ومآسٍ.
يعالج أيضاً قضية نزوح سكان الريف الى العاصمة، التي يرى أنها تشوهت بسببهم، فيقول: “العاصمة غزيت من المدن القصيّة، وماتت البغددة”. وفي تمثيل هذه النظرة الموجودة في الواقع فعلاً، يمكن أن نقرأ انتقاداً ضمنياً للطبقية والتعالي على المواطن المشارك في الوطن، فكيف يصح أن يُلصقَ بالريف، الذي أخذ “يتسع ويتسع بحجم الأمية” كما يعبر، كل تلك التهم والجرائم، في حين أن الريف لا يعني الجهل دائماً، مثلما “البغددة” لا تساوي الثقافة على طول الخط، والجريمة بالمقابل لا هوية لها ولا انتماء، والفرد لا يختار مسقط رأسه أو ظروف نشأته. ثم إن العواصم، بطبيعتها، مدن هجينة، لا يمكن صبغها بهوية لها لون واحد.
المستوى الثالث: نراه ماثلاً في النسق الاستعادي والنبش لأحداث وشخصيات من التاريخ العراقي الحديث، ويتوزع بشكل متناثر في الرواية، وقد كان له أثر في توسيع مدركات الحكي دلالياً من خلال ربطه بتلك الرموز. كما نشهده في غضون السياحة الاستذكارية في أماكن مختلفة من العاصمة وضواحيها، السيدية والبياع خصوصاً، ومقارنتهما بما حلّ فيهما أيام اشتداد الازمة، حيث نسجت بينهما “حكايات من رصاص” وصارا مثالاً للانقسام المناطقي والتخندق الطائفي المتقابل.
الرواية في هذا المستوى تؤكد أن التاريخ العراقي عبارة عن مجموعة استعادات متكررة، يمارس الملثمون فيها أدوارهم، تحت شعارات مختلفة، والنتيجة واحدة، فالصدفة هي ما قد تحكم بنهاية حياة إنسان ما، في ظل غياب مريع لسلطة المنطق والعقل.
من خلال هذه المستويات تكشف الرواية عن قدرة كبيرة على توظيف اللغة القريبة من القارئ، اللغة السهلة والمنسابة، لتصوير الأحداث، لكن إتقان السرد والتوفيق بين مستوياته يتفاوت بين بداية الرواية، خصوصاً الربع الأول منها، وبين فصولها التالية، والتي استرجعت الرواية فيها توازنها الفني، لترفع من قدرة التخييل على حساب النزعة التوثيقية التي لو قُدّر لها وتمادت كثيراً لأودت بالرواية، وهذا ما لم يحصل، لأن الكاتب أجاد الامساك بزمام أدواته السردية، خصوصاً في فصلها الأخير، الذي ننوه بتميزه مرة أخرى.